مرثية النخّلة
في السابع عشر من نوفمبر عام 2023، فقد العالم نورك، وحُرمتُ أنا من فرصة توديعك بهدوء إلى المجهول العظيم، و غياب تام لآخر عناق، لكلمات الوداع، لفرصة إنسانية لطمئنة رحلتك.. في رحيلك المفاجئ و السريع يتردد صدى فراغ عميق، ألم لا يرحم صامت و مُلح.. أفكار بكُل إحتمالات ما لم يُفعل و ما لم يُقال... كل ذكرياتك هي مجموعة من احاسيس مغمورة بالدفء و الكرم العميق الذي عرّف جوهرك، طهيك في كل إجتماع عائلي الذي كان بمثابة دفء أمومي متجسد في الطعام، أصبح مرادف لتجمعات عائلتنا ..كنا نتجمع حول طاولتك كمركز عالمنا الذي ندور حوله، نسيج عائلي متشابك بالحوار، والضحك و ومرح الأطفال البريء وهم يطاردون النحل الدائم الحضور في الحديقة الخلفية..
عندما اتأمل صور شبابك المفقودة و القصص التي تُسرد عن الزمن الذي وُجد في وقت ما قبل أن تبدأ خيوط الانحدار العقلي بنسج نمطها الكئيب .. كان التباين صارخًا، بين من كُنتِ عليه و من كُنتِ في السنين اللاحقة، رُويتِ قصصًا عن حيوات متعددة، تجارب واسعة كالمحيط، تصورك كنخلة عائلتنا - ثابتة و تمتد نحو الشمس.
كان رحيلك المفاجئ فِكرةً مؤجله، لم يستطيع عقلي تقبلها تماماً أو قبول احتماليتها العالية... في الشهر الذي سبق يومك الأخير، كان صوتك مشوبًا بخوف مُحقق - بشارة بالنهاية التي شعرتِ أنها قريبة، والتي استخفينا بها بسذاجة.. ثم، عندما هبط المرض بقسوته الشديدة، كان انحدارك سريعًا وحادًا لدرجة أنه تجاوز الفهم و الإستيعاب.
عندما جئت لأراكِ، كان هناك حاجز أقوى من الجدران يمنعني من الوصول إليك.. القدر، في تصميمه الغامض، حرمني من ذلك اللقاء الأخير.. الجدران، العقيمة واللامبالية، وقفت شاهدة صامتة على شوقي غير المحقق للوداع.. ترك هذا الغياب من دون ختام فجوة عميقة ومؤلمة.. رحيلها، المفاجئ والسريع، جاء بإدراك مؤلم - أن كلماتنا وابتساماتنا الأخيرة كانت قد تبادلت بالفعل، دون أن ندرك، في ماضٍ يبدو الآن بعيدًا جدًا.
في أعمق أمنياتي الطفولية في مرضك، تمسكت بالإيمان بأن الله سيمنحك الراحة و الشفاء و إنعكاس أشبه بمعجزه و أنك ستجدين العزاء مرة أخرى في أحضان الحياة، لتتلاشى الحياة منك بهدوء لاحقاً في الوهج الذهبي للشيخوخة، لا في الحضن البارد للملاءات المعقمة.. حلمت أنك ستكونين هناك، وسط الضحك والفرح في تجمع عائلي أخير.. في الأعياد و الأفراح و الأحزان..
في تلك الغرفة الهادئة، حيث وضعوك قبل رحلتك الأخيرة، انحنيت لأقدم قبلة رقيقة كعهد صامت للحياة التي لم تتمكني من عيشها، هناك كنتِ ممددة، شاحبة وساكنة، في تناقض صارخ مع الروح النابضة بالحياة التي كنتِ تجسدينها ذات يوم. جسدك، الآن خالٍ من دفء روحك، شعور مُرعب بالبعد، وعاء فارغ كان يفيض بالحياة والحب.
تخيلت رحيلك كرحلة - عبورًا عبر بستان لا نهائي من أشجار النخيل، يقود إلى اللقاء بمن سبقوك.. هناك، أتخيل أنك تُحررين من الخوف، و من العذاب الدنيوي.. في ذلك العالم الأثيري البعيد، هل يزين وجهك ابتسامة صافية وغير مثقلة، ابتسامة لم تمسها أحزان وهموم العالم؟ أتساءل، في تلك الملاذ الهادئ، هل هناك حقًا السكينة التي نسعى جميعًا إليها، هدوء يفلت منا في هذا العالم المضطرب؟
هل وجدتِ الأخت التي اشتقتِ لها، تلك التي حملتِ ذكراها قريبًا، منارة من الحب والدفء في قلبك؟ هل هي هناك، في ذلك المكان الذي يتجاوز كل الأماكن الحسية، ذراعيها مفتوحتان في احتضان طال انتظاره؟
مجتمعتين في لم شمل فرح ودموع يتخطى حدود الحياة والموت؟ تنتابني أفكار هذا اللقاء، في مكان لا دموع فيه ولا ألم إلا ظل متناسي، تجلب العزاء الممزوج بالمرارة... كأملٍ خافت ولكنه مُلح.. لكنهُ ضروري لأنه لا يوجد تبرير آخر..
المرور بجانب غرفتك يحقق فرضية غيابك الأبدي، يجعل كل خطوة أثقل.. و المكان الذي كان يتردد فيه ضحكك وقصصك ودفئك و خوفك و نوبات رهابك و هلعك الآن يكمن في صمت..حتى الهواء المُحيط بغرفتك يبدو خاليًا من الجوهر و المعنى،
أجاهد لأفهم الحقيقة الحتمية لرحيلك، الحقيقة الصارمة أنك ذهبت حقاً..
العالم يستمر في الدوران، غير مبالٍ بالفراغ الشاسع الذي خلقه غيابك في حياتي وفي نسيج كياني..
سأتذكر كرمك، كيف كنتِ تعطي من نفسك بسخاء، لطفك الذي لمس حياة الآخرين بطرق لم تدركها أبداً.